كتابة هدى عثمان
من أهم الأهداف المرجوة من إنشاء هذه المدونة هو التعريف بتاريخ الليبرالية الكلاسيكية Classical Liberalism من حيث النشأة والتفاعل مع التيارات الفكرية الاخرى وما نتج عن هذا الصراع الفكري من تحديد لمصير العالم الإقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي. هنا نعرض ملخصاً سريعاً لأهم النقاط التاريخية المحددة لتطور هذه المدرسة الفكرية في العصر الحديث.
في إحدى الندوات التي اقامها معهد الدراسات الانسانية التابع لجامعة جورج ماسون بولاية فرجينيا الامريكية يلخص دكتور ستيفن دافيس قصة الصعود والهبوط الفكري لليبرالية ما بين منتصف القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث بدأت الليبرالية كتيار مولد للافكار ومحدد للاجندات السياسية البارزة في الستيينيات من القرن التاسع عشر قبل أن يتسارع التطور في التسعينيات من نفس القرن ثم تجد اللبرالية نفسها في موقع الدفاع عن افكارها ضد المذاهب الاخرى ثم تصل إلى أدنى نقطة لها في الثلاثنيات والاربعينيات من القرن العشرين حين غلبت التيارات الجمعية على باقي المدارس الفكرية.
كانت سنة 1863 علامة فارقة في التاريخ الانساني الحديث حين انتهت العبودية بتوقيع إعلان تحرير العبيد في أمريكا والتي واكبها أيضاً تحرير الريف الروسي من وطأة الإستعباد في الحقول والمزارع، كما تم أيضاً توقيع إتفاقية إنشاء أكبر منطقة تجارة حرة بين بريطانيا العظمى وفرنسا.
ما بين العامين 1870 و-1914 شهد العالم تطوراً غير مسبوق في النمو الاقتصادي وإرتفاعاً ملحوظاً في المستوى المعيشي و معدلات الهجرة إلى بريطانيا وأمريكا وبدء التحرك الكبير لرؤوس الاموال خارج دول المنشأ، مع ما صاحب كل ذلك من تقدم تكنولوجي في الصناعة ووسائل المواصلات يمكن القول بأن تلك الفترة هي البداية الحقيقية للعولمة والتكامل الإقتصادي بين الدول.
هنا يشير دكتور دافيس أنه رغم بروز تيار الليبرالية كمحرك أساسي للاحداث، إلا أن تيارات أخرى مضادة كانت تنشأ في الظل هي بالأساس مفاهيم جمعية Collectivism تشمل الامبريالية والقوميات العرقية Nationalism وسياسات الحماية الإقتصادية Protectionism ، حيث يعادي أي مذهب جمعي مفاهيم الفردية ويرتكز على المجتمع أو الامة كهدف أساسي للنماء والرفاهية، وبذلك على الافراد التضحية بمصالحهم الشخصية ورغباتهم ومعتقداتهم من أجل خدمة هدف موحد جمعي تحدده القلة الحاكمة . أيضاً من بين الأفكار الجمعية التي ظهرت وقتها هي اليوجنكسEugenics أو علم تحسين النسل ليستخدم في تحديد من من حقه التناسل ومن يعتبر غير صالح لذلك كالملونين والغجر والمعاقين مثلاً كل ذلك بهدف الرقي بسلالة معينة بالبشر (لاقت هذه الفكرة رواجاً هائلاً في ألمانيا النازية مطلع القرن العشرين قبل أن تسقط كلياً اواخر القرن).
أما على صعيد الثقافة والفنون فقد إنعكس الصراع الفكري أيضاً على أعمال كتاب وموسيقيي وفلاسفة هذه الفترة، فهناك من كان لبرالياً كجوتة وفيردي، قبل أن تجتاح موجات معادية للبورجوازية والمجتمع الليبرالي على يد كتاب أمثال فلوبير وموسيقيين أمثال سترافنسكي، وقد كان للمثقفين والمبدعين تأثير كبير في إزدهار فكر معين عن الأخر كونهم "المشرعين غيرالمعترف بهم للتاريخ الإنساني".
إذاً فقد ظهرت على السطح مؤشرات النمو الإقتصادي ونشأ المجتمع الحديث وازدهرت التجارة الحرة بين البلاد وراجت الافكار التي تدعم الحريات الفردية وحريات التعاقدات إلخ، بيد أن كانت هناك تيارات مضادة في السياسة والفنون. ما حدث بعدها أدى إلى إعادة خلط أوراق اللعب السياسية من حيث تعريف اليمين واليسار و غيرها من الانحيازات السياسية.
ففي الفترة من 1780-1880 كان اليسار يعرف هدفه التقدمي بالسعي وراء الحداثة وتقليص دور الدولة والفصل بين سلطة الكنيسة والسلطات التشريعية والتنفيذية، كما يؤيد المذهب الفردي وحرية التجارة، وبالتالي كان يمكن وقتها ربط اليسار بالفكر الليبرالي.
ففي الفترة من 1780-1880 كان اليسار يعرف هدفه التقدمي بالسعي وراء الحداثة وتقليص دور الدولة والفصل بين سلطة الكنيسة والسلطات التشريعية والتنفيذية، كما يؤيد المذهب الفردي وحرية التجارة، وبالتالي كان يمكن وقتها ربط اليسار بالفكر الليبرالي.
أما في 1880 فقد بدأ الجدل بين المذهبين الفردي و الشمولي حيث يؤيد الاخير مبدأ تعظيم دور الدولة كوكيل للاشراف على الافراد ومحققاً لمصالحهم، واحتفظ التيار الجمعي بميزة التقدمية واصماً بذلك الليبراليين بأنهم محافظين Conservatives
باختصار، بعد أن كان الطيف السياسي يمتد بين اللبراليين والمحافظين، أضحى بين الاشتراكيين (المعتدل منهم والمتطرف) من جهة وبين اللبراليين والمحافظين من جهة أخرى، ومن الجدير بالذكر أن مجموعات من هؤلاء المحافظين والتي انتقلت إلى معسكر الاشتراكيين هي التي ساهمت في ولادة الفاشية فيما بعد.
وهنا وبعد أن كانوا يعتبرون أنفسهم يساريين فجأة وجد اللبراليون أنفسهم محسوبين على اليمين المحافظ وقد اصبحو في موقع الدفاع عن أفكارهم بعد اتهامهم بالرجعية. ومن أهم أسباب تراجع الفكر اللبرالي أمام التيارات الجمعية أن اللبراليين لم يراجعوا أفكارهم ويجددوها بما يتلاءم ومتطلبات العصر، بالضبط كما حدث مع اليسار الإشتراكي إبان سقوط الاتحاد السوفيتي. فمثلاً خسر اللبراليون تأييد الطبقات التي كانو يستمدون منها دعمهم وقياداتهم كطبقة الحرفيين وصغار المنتجين.
فخرجت في هذه الفترة تيارات جمعية خطيرة منها التيار القومي وسيطرة الطبقة العسكرية Militarism التي روجت لفكرة أن الحرب هي أداة للتقدم، فكرة جذبت الآلاف من الناس للتطوع في خدمة الجيش. وقد دعم كل ذلك تحرك النخب الحاكمة بإتجاه الامبريالية وفرض قيود الحماية الاقتصادية مما أدى إلى تراجع معدلات النمو الإقتصادي العالمي.
وتتابعت الاحداث حتى وقعت كارثة الحروب العالمية ما بين عامي 1914- 1945 ولادة الدولة الشمولية Totalitarian State كنتيجة مباشرة للحرب العالمية الاولى، أصيب الاقتصاد العالمي وقتها بالضرر الهائل خاصة الدول الصاعدة وقتها كالهند والصين.
وفي ذروة الأزمة في الثلاثنيات والاربعينيات من القرن الماضي كانت المقترحات الإصلاحية تتسم بالشمولية التامة (والتي قد تعتبر شاذة حتى في رأي اليسار السياسي الحديث) كإعطاء الحق الكامل للدولة في تخصيص الوظائف وتوزيعها على الأفراد حسبما ترى الحاجة.
وفي ذروة الأزمة في الثلاثنيات والاربعينيات من القرن الماضي كانت المقترحات الإصلاحية تتسم بالشمولية التامة (والتي قد تعتبر شاذة حتى في رأي اليسار السياسي الحديث) كإعطاء الحق الكامل للدولة في تخصيص الوظائف وتوزيعها على الأفراد حسبما ترى الحاجة.
إذاً فقد مرت الليبرالية بمراحل الرواج منتصف القرن التاسع عشر بينما كانت التيارات الجمعية تبدأ في الظهور والسيطرة مؤدية لنتائج مدمرة انتهت بوقوع الحربين العالمية الاولى والثانية وتباطؤ النمو الإقتصادي الذي وصل إلى أسوأ معدلاته في الثلاثينات والاربعينيات من القرن العشرين، ولم يتعافى الاقتصاد العالمي كلية من آثار هذه الفترة قبل بداية التسعينيات.
محاضرة الدكتور دافيس يمكن مشاهدتها بالكامل في هذا الفيديو (بالإنجليزية)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق